فصل: قَاعِدَةٌ: الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُشَاكِلًا لِلسُّؤَالِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.قَاعِدَةٌ: الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُشَاكِلًا لِلسُّؤَالِ:

فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قَوْلِكَ مَنْ قَرَأَ فَتَقُولُ زَيْدٌ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْفِعْلِ عَلَى جَعْلِ الْجَوَابِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً قَالَ وَإِنَّمَا قَدَّرْتُهُ كَذَلِكَ لَا مُبْتَدَأً مَعَ احْتِمَالِهِ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْأَجْوِبَةِ إِذَا قَصَدُوا تَمَامَهَا قَالَ تَعَالَى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أنشأها}.
ومثله {خلقهن العزيز العليم} {قل أحل لكم الطيبات} فَلَمَّا أَتَى بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ مَعَ فَوَاتِ مُشَاكَلَةِ السُّؤَالِ عُلِمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْفِعْلِ أَوَّلًا أَوْلَى انْتَهَى.
وَمِمَّا رُجِّحَ بِهِ أَيْضًا تَقْدِيرُ الْفِعْلِ أَنَّهُ حَيْثُ صَرَّحَ بِالْجُزْءِ الْأَخِيرِ صَرَّحَ بِالْفِعْلِ وَالتَّشَاكُلُ لَيْسَ وَاجِبًا بَلِ اللَّائِقُ كَوْنُ زَيْدٍ فَاعِلًا أَيْ قَرَأَ زَيْدٌ أَوْ خَبَرًا أَيِ الْقَارِئُ زَيْدٌ لَا مُبْتَدَأَ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأُولَى: التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ أَوْ حَذْفُهُ؟ وَهَلْ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ؟
وَالْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ يَعِيشَ التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ أَجْوَدُ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلِ الْأَكْثَرُ الْحَذْفُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى {قل أحل لكم الطيبات} {ليقولن خلقهن العزيز العليم} {قل يحييها الذي أنشأها} فَكَانَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمُرَحِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} من أنهم أجيبوا بغير ما سألوا لِنُكْتَةٍ.
وَفِيهِ نَظَرٌ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ مَنْ جَاءَ فَقُلْتَ جَاءَ زَيْدٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً وَلَوْ قُلْتَ زَيْدٌ كَانَ نَصًّا فِي أَنَّهُ جَوَابٌ وَفِي الْعُمُومِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مَنْ وَكَأَنَّكَ قُلْتَ الَّذِي جَاءَ زَيْدٌ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ وَهَاتَانِ الْفَائِدَتَانِ إِنَّمَا حَصَلَتَا مِنَ الْحَذْفِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِمَنِ الملك اليوم لله الواحد القهار} إِذِ التَّقْدِيرُ الْمُلْكُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ مِنَ الْجَوَابِ إِذِ الْمَعْنَى لَا مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ.
وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِمَنِ الْأَرْضُ ومن فيها} {لمن ما في السماوات والأرض} {قل من يرزقكم من السماوات والأرض}.
وَمِنَ الْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
وَلَعَلَّهُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ {قُلْ من رب السماوات السبع} وقوله: {خلقهن العزيز العليم} لِأَنَّ ظَاهِرَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعَطِّلَةً وَدَهْرِيَّةً فَأُرِيدَ التَّنْصِيصُ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {نبأني العليم الخبير} لِأَنَّهَا اسْتَغْرَبَتْ حُصُولَ النَّبَأِ الَّذِي أَسَرَّتْهُ.
وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ أَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ زَيْدًا فَاعِلٌ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ فِي جواب مَنْ قَامَ عَلَى تَقْدِيرِ قَامَ زَيْدٌ وَالَّذِي يُوجِبُهُ جَمَاعَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْجُمْلَةِ الْمَسْئُولِ بِهَا فِي الِاسْمِيَّةِ كَمَا وَقَعَ التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} في الجملة الفعلية وإنما لم يقطع التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا أساطير الأولين} لأنهم لو طبقوا لَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِنْزَالِ وَهُمْ مِنَ الْإِذْعَانِ بِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ الثَّانِي: أَنَّ اللَّبْسَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ السَّائِلِ إِلَّا فِيمَنْ فَعَلَ الْفِعْلَ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَرَضِ السَّائِلِ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ فَحَرِيٌّ أَنْ يَقَعَ فِي الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ مَحَلُّ التَّكْمِلَاتِ وَالْفَضَلَاتِ.
وكذلك: أَزَيْدٌ قَامَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَالْوَجْهُ فِي جَوَابِهِ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ قَامَ أَوْ عَمْرٌو قَامَ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَوَابِ:
{أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا} فَإِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنِ الْفَاعِلِ لَا عَنِ الْفِعْلِ وَمَعَ ذَلِكَ صَدَرَ الْجَوَابُ بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوا عَنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ بَلْ كَانَ عَنِ الشَّخْصِ الْكَاسِرِ لَهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا بَعْدَ بَلْ لَيْسَ بِجَوَابٍ لِلْهَمْزَةِ فَإِنَّ بل لا يصلح أَنْ يُصَدَّرَ بِهَا الْكَلَامُ وَلِأَنَّ جَوَابَ الْهَمْزَةِ بنعم أو بلى فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَقَالَ مَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا تَقْدِيرَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ.
فَإِنْ قُلْتَ: يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ أَنْ يَكُونَ الْخُلْفُ وَاقِعًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا الْمُقَدَّرَةِ وَالْمَعْطُوفَةِ الْمَلْفُوظِ بِهَا بَعْدَ بَلْ.
قُلْتُ: وَإِنَّهُ لَازِمٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا أَنَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا مَعَ زِيَادَتِهِ بِالْخُلْفِ عَمَّا أفادته الجملة الأولى من التعريض إذا مَنْطُوقُهَا نَفْيُ الْفِعْلِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَفْهُومُهَا إِثْبَاتُ حُصُولِ التَّكْسِيرِ مِنْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قلت: ولابد مِنْ ذِكْرِ مَا يَكُونُ مَخْلَصًا عَنِ الْخُلْفِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ فِي التَّعْرِيضِ مَخْلَصًا عَنِ الْكَذِبِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْسِبَ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْهُ إِلَى الصَّنَمِ حَقِيقَةً بَلْ قَصْدُهُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ لِيَحْصُلَ غَرَضُهُ مِنَ التَّبْكِيتِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُثْبِتٌ مُعْتَرِفٌ لِنَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ غَضِبَ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ غَيْرَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمَّا كَانُوا لِأَكْبَرِهَا أَشَدَّ تَعْظِيمًا كَانَ مِنْهُ أَشَدَّ غَضَبًا فَحَمَلَهُ ذلك على تكسيرها وذلك كله حامل لِلْقَوْمِ عَلَى الْأَنَفَةِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَخُصُّوهُ بِزِيَادَةِ التعظيم ومنبه لَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَسِّرَةَ مُتَمَكِّنٌ فِيهَا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ مُنَادًى عَلَيْهَا بِالْفَنَاءِ مُنْسَلِخَةٌ عَنْ رِبْقَةِ الدَّفْعِ فَضْلًا عَنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ حَقِيقٌ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ لَا التَّوْقِيرِ وَالْفِعْلُ يُنْسَبُ إِلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالسَّبَبِ إِذْ لِلْفِعْلِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ تَعَلُّقَاتٌ وَمُلَابَسَاتٌ يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ بَادِرَةَ تَعْظِيمِ الْأَكْبَرِ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ مِنْ بَاقِي الْأَصْنَامِ وَعَلِمَ أَنَّ مَا هَذَا شَأْنَهُ يُصَانُ أَنْ يَشْتَرِكَ مَعَهُ مِنْ دُونِهِ فِي التَّبْجِيلِ وَالتَّكْبِيرِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى تَكْسِيرِهَا مُنَبِّهًا لهم على أن الله أَغْيَرُ وَعَلَى تَمْحِيقِ الْأَكْبَرِ أَقْدَرُ وَحَرِيٌّ أَنْ يُخَصَّ بِالْعِبَادَةِ فَلَمَّا كَانَ الْكَبِيرُ هُوَ الْحَامِلُ عَلَى تَكْسِيرِ الصَّغِيرِ صَحَّتِ النِّسْبَةُ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَلَفَ وَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إِذْ وَضَعْتُمُ الْعِبَادَةَ بِغَيْرِ مَوْضِعِهَا.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ السُّؤَالَ إِذَا كَانَ مَلْفُوظًا بِهِ فَالْأَكْثَرُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْجَوَابِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْمِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ مُضْمَرًا فَوَجَبَ التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ لِضَعْفِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يُلْفَظَ بِهِ.
وَهُوَ مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ فيها بالغدو والآصال رجال} فِيمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ يُسَبِّحُهُ فَقِيلَ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ وَنَظِيرُهُ ضُرِبَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو عَلَى بِنَاءِ ضُرِبَ لِلْمَفْعُولِ نَعَمُ الْأَوْلَى ذِكْرُ الْفِعْلِ لِمَا ذُكِرَ وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظٍ قَالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ نَحْوُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فقالوا سلاما قال سلام} كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالَ لَهُمْ؟ {قَالَ أَلَا تأكلون} وَلِذَلِكَ قَالُوا لَا تَخَفْ.
وَعَلَى هَذِهِ السِّيَاقَةِ تَخْرُجُ قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السماوات والأرض} إلى قوله: {إن كنت من الصادقين}.
وَعَلَى هَذَا كُلُّ كَلَامٍ جَاءَ فِيهِ لَفْظَةُ قَالَ هَذَا الْمَجِيءَ غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْضَحُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قوم} فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِقوله: {فَمَا خطبكم أيها المرسلون}.
وَمِثْلُهُ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءها المرسلون} إِلَى قوله: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا}.

.فائدة: في أن أقل الأمم سؤالا أمة محمد عليه السلام:

نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا فَأُجِيبُوا.
قَالَ الْإِمَامُ: ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ {وَإِذَا سَأَلَكَ عبادي عني} {يسألونك عن الأهلة} وَالْبَاقِي سِتَّةٌ فِيهَا وَالتَّاسِعَةُ {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم} في المائدة.
والعاشرة: {يسألونك عن الْأَنْفَالِ}.
الْحَادِي عَشَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عن الروح}.
الثَّانِي عَشَرَ فِي الْكَهْفِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القرنين}.
الثَّالِثَ عَشَرَ فِي طه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}.
الرَّابِعَ عَشَرَ فِي النَّازِعَاتِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}.
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَرْتِيبٌ: اثْنَانِ مِنْهَا فِي شَرْحِ الْمَبْدَأِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} فإنه سؤال عن الذات وقوله: {عن الأهلة} سُؤَالٌ عَنِ الصِّفَةِ.
وَاثْنَانِ فِي الْآخَرِ فِي شرح المعاد وقوله: {ويسألونك عن الجبال} وقوله: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها}.
وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أولهما {يا أيها الناس} في النصف الْأَوَّلِ وَهُوَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ سُورَةُ النِّسَاءِ وَالثَّانِيَةُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي وَهِيَ سُورَةُ الْحَجِّ ثُمَّ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الَّذِي فِي الْأَوَّلِ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ وَالَّذِي فِي الثَّانِي يشتمل على شرح حال.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ {يَسْأَلُونَكَ} ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بغير واو {يسألونك عن الأهلة} {يسألونك عن الشهر الحرام} {يسألونك عن الخمر والميسر} ثُمَّ جَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالْوَاوِ {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا ينفقون} {ويسألونك عن اليتامى} {ويسألونك عن المحيض}؟
قُلْنَا: لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنِ الْحَوَادِثِ الْأَوَّلُ وَقَعَ مُتَفَرِّقًا عَنِ الْحَوَادِثِ وَالْآخَرُ وَقَعَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عني فإني قريب} وَعَادَةُ السُّؤَالِ يَجِيءُ جَوَابُهُ فِي الْقُرْآنِ بِـ: (قُلْ) نَحْوَ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وَنَظَائِرِهِ؟
قِيلَ: حُذِفَتْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْوَاسِطَةِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاعِي وَاسِطَةً وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الدُّعَاءِ تَجِيءُ الْوَاسِطَةُ.
الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ دُونَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَيْنَ شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} وَقَعَتْ إِضَافَةُ الشَّرِيكِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا كَانُوا يَقُولُونَ لِأَنَّ الْقَدِيمَ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَهُ.
وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أندادا}.
وقوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}.
وقوله: {لأنت الحليم الرشيد} أي بزعمك واعتقادك.
وقوله: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}.
وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.
وقوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة}.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أو هو أقرب} أَيْ أَنَّكُمْ لَوْ عَلِمْتُمْ قَسَاوَةَ قُلُوبِكُمْ لَقُلْتُمْ إِنَّهَا كَالْحِجَارَةِ أَوْ إِنَّهَا فَوْقَهَا فِي الْقَسْوَةِ وَلَوْ عَلِمْتُمْ سُرْعَةَ السَّاعَةِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ فِي سُرْعَةِ الْوُقُوعِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ عِنْدَكُمْ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى قَوْمٍ هُمْ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَشَكَكْتُمْ وَقُلْتُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا.
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إن قومي كذبون} ونحوه مِمَّا كَانَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خِلَافَهُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى طَمَعٍ أَلَّا يَكُونَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَعْتَادُهُ الْمَخْلُوقُونَ فِي أَنَّ الْإِعَادَةَ عِنْدَهُمْ أَهْوَنُ مِنَ الْبُدَاءَةِ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَيَكُونُ الْبَعْثُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْإِنْشَاءِ.
وَحَكَى الْإِمَامُ الرَّازِّيُّ فِي مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ قَالَ مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْعِبْرَةِ عِنْدَكُمْ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلْعَدَمِ (كُنْ) فَخَرَجَ تَامًّا كَامِلًا بِعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمَفَاصِلِهِ فَهَذَا فِي الْعِبْرَةِ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ لِشَيْءٍ قَدْ كَانَ عُدْ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عِبْرَتِكُمْ لَا أَنَّ شَيْئًا يَكُونُ عَلَى اللَّهِ أَهْوَنَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي {عَلَيْهِ} يَعُودُ لِلْخَلْقِ لِأَنَّهُ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ فَيَقُومُونَ وَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا نُطَفًا ثُمَّ عَلَقًا ثُمَّ مُضَغًا إِلَى أن يصيروا رجالا ونساء.
وقوله: {يا أيها الساحر} أي يأيها الْعَالِمُ الْكَامِلُ وَإِنَّمَا قَالُوا هَذِهِ تَعْظِيمًا وَتَوْقِيرًا مِنْهُمْ لَهُ لِأَنَّ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ كَانَ عَظِيمًا وصنعة ممدوحة.
وقيل: معناه يأيها الَّذِي غَلَبَنَا بِسِحْرِهِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ خَاصَمْتُهُ فَخَصَمْتُهُ أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْخُصُومَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا تَعْيِيبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسِّحْرِ وَلَمْ يُنَافِسْهُمْ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِهِ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} جيء بـ: (إن) الَّتِي لِلشَّكِّ وَهُوَ وَاجِبٌ دُونَ إِذِ الَّتِي لِلْوُجُوبِ سَوْقًا لِلْكَلَامِ عَلَى حَسَبِ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ مُعَارَضَتَهُ فِيهَا لِلتَّهَكُّمِ كَمَا يَقُولُهُ الْوَاثِقُ بِغَلَبَتِهِ عَلَى مَنْ يُعَادِيهِ إِنْ غَلَبْتُكَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبُهُ تَهَكُّمًا بِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يخلق كمن لا يخلق} وَالْمُرَادُ بِـ: (مَنْ لَا يَخْلُقُ) الْأَصْنَامُ وَكَانَ أَصْلُهُ كَمَا لَا يَخْلَقُ لِأَنَّ (مَا) لِمَنْ لَا يَعْقِلُ بِخِلَافِ (مَنْ) لَكِنْ خَاطَبَهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً وَعَبَدُوهَا فَأَجْرَوْهَا مَجْرَى أُولِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ لِلْأَصْنَامِ {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بها أم لهم أيد} الْآيَةَ أَجْرَى عَلَيْهِمْ ضَمِيرَ أُولِي الْعَقْلِ كَذَا قِيلَ.
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُمْ خطأ وضلالة فالحكم يقتضي ألا يَنْزِعُوا عَنْهُ وَيُقْلِعُوا لَا أَنْ يُبْقُوا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْغَرَضُ مِنَ الْخِطَابِ الْإِيهَامُ وَلَوْ خَاطَبَهُمْ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِمْ فَقَالَ: كَمَا لَا يَخْلُقُ لَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْأَصْنَامِ مِنَ الْجَمَادِ.
وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْخِطَابِ بِعَسَى وَلَعَلَّ فَإِنَّهَا عَلَى بَابِهَا فِي التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطِبِينَ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَقُولَا لَهُ قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} اذْهَبَا إِلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ عِنْدَكُمَا فَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَالِمٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ وما يؤول إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ إِنَّهَا تَعْلِيْلَةٌ أي يَتَذَكَّرَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ.
وَمِنْهُ التَّعَجُّبُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ نحو فما أصبرهم على النار أَيْ هُمْ أَهْلٌ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَمِنْ طول تمكنهم في النار.
ونحوه: {قتل الإنسان ما أكفره} و: {أبصر به وأسمع} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَعِيْمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَشَقَاءِ أَهْلِ النَّارِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَزُولَانِ لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا قَصَدُوا الدَّوَامَ أَنْ يُعَلِّقُوا بِهِمَا فَجَاءَ الْخِطَابُ عَلَى ذَلِكَ.